استمرارية بعد تمزق: الحضور الغائب لدير ياسين في فيلم ”لم يُصنع“ (Unmade Film)
”لم تكن الأسلحة الصهيونية الموجهة إلينا مجرد عائق مادي. لقد كانت تذكيراً قاتلاً بأن مدينتنا لم تعد سوى ذكرى؛ حلم بأننا الآن قد عدنا إلى نقطة الصفر. فلتتمع بالمشهد إن كنت تستطيع ذلك وسط آلاف المشردين. إلا أنك قد تم اقتلاعك من الجذور. فكتبك وأفكارك ورؤاك: لم تعد سوى مؤشرات عبثية في عالم تتفوق فيه القوانين العبثية.“
جبرا إبراهيم جبرا
قد تكون التفاهة (banality) أبرز ما ما يميز الجهود الاسرائيلية لتشكيل تاريخ وإقليمية وهوية لا جدال فيها في فلسطين: التفاهة التي غالباً ما يصاحبها تطبيع العبث. ويتطلب الاستمرار في العيش مع العلم بأحوال الظلم الكبير الذي يحدث حالةً من الإنكار الواعي أو اللاواعي. إن التكتيكات الإسرائيلية الروتينية من حيث استبدال سرد تاريخي بآخر، واستبدال طبقات عديدة من الذكريات بخط وحيد لا جدال فيه قد أصبحت جد معروفة الآن. وقد تم تنفيذ ذلك من خلال مكونات متناقضة من الوطني العلماني والذي يشكّل في نفس الوقت مؤسسات ثقافية يهودية وخطابات وأيقونات ومجازات تنجز عملية طمس النسيج الفلسطيني قبل عام 1948. وليست هذه إلّا حالات من الإنشاء المعقد والملتوي لهوية مزعزعة في دولة اسرائيل الحديثة. ولم يعترف المجتمع الدولي إلى حدّ كبير وحتى الماضي القريب بوجود ممارسات الإقصاء الثقافي والهيمنة العسكرية ولا بالعقبات البيروقراطية والإجراءات اليومية الهادفة إلى استمرارية مكلفة للاحتلال في الأراضي المحتلة، وفي نفس الوقت إلى السيطرة على حياة المواطنين الفلسطينيين في اسرائيل من خلال نظام تفرقة عنصرية مقنن وممؤسس أعد بإتقان. إلا أن في قلب ممارسات السيطرة هذه في إسرائيل درجة معينة من تمثيل الذات لإسرائيل، لنفسها وللمجتمع الدولي، تستند على رواية يتم التمسك بها بقوة: أن دولة يهودية غربية ومتحضرة، قد تم تحريرها من العرب من قبل الناجين من المحرقة على الرغم من كل العقبات عام 1948،وذلك على النقيض من رواية إقتلاع العرب بالقوة من قبل المستوطنين الاستعماريين المسلحين بأحدث التكنولوجيا العسكرية الأوروبية والأيدولوجيا العنصرية.
ومع ذلك، فإن الأمر الأخطر من هذا التنافر في العرض، هو الطريقة التي تولد فيها البنية العنيفة للسيطرة والتحكم والتي تمارسها اسرائيل، لدى هؤلاء المواطنين الذين يشاهدونها، ما وصفه ذات مرة عالم الجريمة والاجتماع ستانلي كوهن بِـــ "حالات الإنكار". ويشير كوهن إلى أشكال التجنب التي يمارسها الذين يقومون بجرائم ويعيشون وهم يعلمون بجرائم تحدث، حتى يتسنى لهم الاستمرار في عمل ذلك. إن حالات بناء ما يسمى بأمة متحضرة وليبرالية وتقدمية على أنقاض وآلام شعب آخر لا حصر لها: فمن القرى التاريخية الفلسطينية المدمرة ظهرت كومونات الفنانين التقدميين، مثل ”عين هود“ سيئة الصيت في حيفا، والمنازل الفلسطينية المسلوبة والتي أعيد توزيعها على المهاجرين الجدد اليهود إلى إسرائيل، والأماكن المدينية مثل قلب ميناء يافا والذي تم تطويره كملعب وساحة للسيّاح والذي يعج الآن بالمطاعم الفخمة ومعارض الفن التي يديرها المتعهدون اليهود الإسرائيليون. وعندما تقف في متحف تاريخ المحرقة في ياد فاشيم، فإنك ترى منظراً يحبس الأنفاس للرمز الغائب، لكنه حاضر، للألم الفلسطيني، قرية دير ياسين. فلا يوجد هناك إشارات أو إعلانات أو نصب تذكارية، كما لا يوجد أي ذكرٍ من أدلاء السياحة في المتحف فيما يتعلق بما يراهُ الزائرون حيثُ يقفون. وقد كتب وليد الخالدي في كتابه ”كي لا ننسى“ ”مع نهاية حرب عام 1948، أُخليت مئات القرى من قاطنيها ووتم طمسها؛ فيمكن للمسافرين على طرقات إسرائيل والطرق السريعة مشاهدة وجود آثار هذه القرى، والتي قد تغفل عنها عين المسافر العابر: فهناك مناطق محاطة بأسيجةٍ غالباً ما تعلو تلةً بسيطة، حيث تركت أشجار الزيتون والفواكه بلا عناية، وقد نمت أسيجة نبات الصبار والنباتات البرية. وتجدُ بين الحينِ والآخر بضعَ منازل منهارة ومساجد وكنائسَ مهملة وجدران متهدمة على امتدادِ القريةِ المهجورة، إلا أنه وفي أغلب الأحيان، فإن كل ما تبقى ليس إلا حجارة مبعثرة وركام يملأ الأمكنة المنسية.“
وهنا نأتي إلى فيلم ”لم يصنع“ (Unmade Film) المتعدد الأجزاء لأوريل أورلو. هذا الفيلم الغير ممكن – الفيلم الذي لم يصنع بعد، هذا الفيلم المجزأ والذي لم يصبح كاملاً، وعلى الرغمِ من "الخطة" الموضوعة له ليصبح كذلك آخذ في التبلور عبر فترةٍ ممتدة ومستمرة من البحثِ والانتاج الذي يستكشِفُ رواياتٍ متعددة ومعانٍ مغلفة تلتقي في دير ياسين. إلا أن فلم ”لم يصنع“ بعدمِ تحقيقهِ فعلياً، يعيد بناء رواية الفضاء والزمان والنقط التاريخية العمياء والتي تضيف طبقاتٍ على المعنى الجديد وغير المستقر لأسئلة اللاوعي عن الألم والصدمة والمعاناة في سياقاتٍ تاريخية وجغرافية مطموسة.
[أوريل أورلو، القصة" ٢٠١٣. رسومات لطلاب دار الطفل العربي، القدس. الصورة من الفنان.]
إن دير ياسين وما تبقى منها، ومثلها المشهد الكليّ الذي يصفه الخالدي، غائبة بشكلٍ واضح. وعلى الرغمِ من التفاهة في العنف الممنهج الذي تشكل دير ياسين جزءاً منهّ، فإن دير ياسين، مقارنةً بالقرى الأخرى التي تمّ محوها، ستظل تقض مضاجع أولئك المتورطين في مصيرها، أكثر من القرى الأخرى التي تم محوها، سواءً كان ذلك عن درايةٍ أم لا. "تذكروا دير ياسين"، يعلو صوت راديو الهاجانا محذراً لإجبار سكانِ قرىً أخرى على الرحيلِ عن بيوتهم. إن دير ياسين اليوم ومنذ عام 1948 غير موجودةٍ على أرض الواقع، حيث لا يوجد ما هو مادي للتذكير بها، عدا، ولسخرية القدر، البيوت الحجرية المتبقية بعد المذبحة، والتي يستعملها في الوقت الراهن معهد كفار شاؤول للأمراض العقلية، والذي افتتح في البداية لعلاج ضحايا المحرقة في أوائل الخمسينيات. لقد تم نزع القرية حرفياً من الجغرافيا الذهنية لجيل كامل من الفلسطينيين الذين منعوا من دخول القدس نتيجةٍ لسياسة العزل الإسرائيلية، والتي فصلت الفلسطينيين عن بعضهم البعض وكذلك عن الإسرائيليين منذ بداية الإنتفاضة الثانية. إن مصادرة مئات القرى الفلسطينية وبكاملها عام 1948، غير موجودٍ في أغلب الأحيان في أدبيات الغرب السائدة سواء العلمية أو غير العلمية منها حول المأساة والفقدان والصدمة. إلا أن دير ياسين وبشكلها المعنوي تبقى منغرسةً في العقل الباطن الفلسطيني كما توفر مكاناً جبرياً لتنقيبٍ وحفرياتٍ متنافسة ومتغيرة المغزى، جنباً إلى جنب مع معنى الفعل الوحشي للتهجير والحياة التي تلت ذلك.
[ . أوريل أورلو، "الاستطلاع" ٢٠١٢-٢٠١٣، الصورة من الفنّان ]
يشق أورلو طريقه في مواجهة هذه المعضلة المأساوية صاعداً من ذكريات الطفولة الخاصة عندما سافر من أوروبا لزيارة عمته (والتي عاشت في كفار شاؤول لنحو 30 عاماً بعد وصولها إلى القدس بعد نجاتها من أوشفيتز). ويحدد عمله بجرأة الصراع النفسي في التاريخ العنصري الأوروبي والذي يحكم الصراع الإسرائيلي الفلسطيني إلى درجة كبيرة، ويبين كيف أن مصير الطرفين يتشابك بشكل معقد. وبينما يصرخ فينا هذا الاستنتاج من بين العروض والمساحات المفتوحة والمغلقة والمباني وتموضع الأجساد والكلمات المنطوقة والنصوص والصور التي يوظفها العمل، إلا أنه ليس الموضوع الرئيسي الذي يعتزم أورلو طرحه. فبعد إدراكه المروع بأن كفار شاؤول هي في الواقع دير ياسين، بدأ أورلو رحلةً لتفحص معنى حدثٍ تاريخيٍ مؤلمٍ يمحو حدثاً آخر، في سياق العلاقة التاريخية المتقاربة بين الحدثين. وقد وطد العزم على خدش النقطة العمياء لدى الإسرائيليين حول دير ياسين من خلال عدم وضع اللمسات الأخيرة على فيلمه وإنهاءه، وهو فيلم لا تكتمل دائرة صناعته أبداً، يقوم أورلو بشكل لا لبس فيه بإعادة توضيح تاريخ المذبحة كحدث حالي وكظاهرة مستمرة. يركز أورلو على المعاني المتعددة لتجليات الإهتزازات التي تبقى بعد الصدمة. ويعبر عن ذلك من خلال الاجزاء المتعددة التي يتكون منها الفيلم:: في مقطع التعليق الصوتي (The Voiceover) على سبيل المثال، وهو عبارة عن إعادة بناء لرواية صوتية تم تجميعها من الأبحاث المختلفة والزيارات الميدانية والمحادثات مع الممرضات في المستشفى والمؤرخين والناجين الفعليين من مجزرة دير ياسين والذين يعيشون الآن في القرى المجاورة لها; وكذلك في مقطع الإخراج (The Staging)، وهو عبارة عن ورشة عمل تم تنفيذها من أجل إنتاج لوحة فنية حية مشتركة، والتي تمزج أفكار الحياة اليومية مع جنون العنف الذي لا يزال يقض مضجع حيوات المشاركين. إن ما يتضح من فيلم لم يصنع برمته ومن مكوناته المختلفة لهو الشاعرية الغامرة: والحدس الحسيّ الذي يرفض عبثية العنف بشكل قاطع ويرفض كذلك التفاهة التي يعتمد عليها.
[أوريل أورلو، "الإخراج" ٢٠١٢-٢٠١٣ ]
[ أوريل أورلو، "موسيقى لفلم لم يصنع في ذكرى دير ياسين" ٢٠١٣. الصورة من حفل موسيقي في مركز السكاكيني في رام الله. ٩ نيسان، ٢٠١٣. الصورة من الفنان]
أما لأولئك الذين ينقبون ويبحثون في السياقات، حيث يتم بناء الذاكرة من هويات متعارضة وأماكن مثيرة للصراع، فإن تحديد الذاكرة يتخطى مجرد عدم الثقة بقدرة االتاريخ على تمثيل نفسه بشكل حقيقي. كما أنه يكشف هوس الخوف من النسيان، ويذكرنا بأن الذاكرة تتضمن قوة الحياة نفسها. إلا أن فيلم ”لم يصنع“ يذهب خطوة أبعد من مجرد كشف مكان مطموس في الذاكرة من أجل الإستمرار في الحياة، وذلك من خلال إعادة بناء الزماني والمكاني لرواية محفورة في عقول الفلسطينيين ومعششة في عقلهم الباطن. إن أورلو يلتقط القضايا الغامضة والإيقاعات، وفوق ذلك كله، الملاحقة من شبح الماضي الذي لم يجد حلاً، وذلك ببساطة من خلال عرضه جنباً إلى جنب مع الحاضر، وبذلك يبين لنا أنهما في الأساس نفس الشيء ومتماثلان كذلك. أما من ناحية الشكل والمضمون، فإن طبيعة المشروع الجامعة، يتم تحديدها عبر انتاج مجموعة من الممارسات الفنية التشاركية وتشكل فرادتها من خلال الاعتماد بدون تردد على التعاون الوثيق مع الناجين من دير ياسين ونسلهم والأسرى الحاليين والعاملين الصحيين، بالإضافة إلى فنانين وموسيقيين آخرين. ويصر أورلو على توجه يعتمد على عمل فني قيد العمل، في مقابل العمل الفني المنجز والمحدد. ومن خلال القيام بالعمل، فإن هذا العمل يرتبط بالتشكيل المتواصل للوعي الجمعي في فلسطين، حتى في مواجهة المحاولات الشرسة لإلغاءه. ومن خلال عمل واحد، يمكن للمشاهدين الإنخراط في توصيف مظاهر سياسات الإحتلال المأخوذة من حالات مدروسة تم جمعها من قبل الفنان عبر حوار مستمر مع العاملين الصحيين النفسيين في مراكز الإرشاد النفسي في القدس ورام الله. أما السيناريو (The Script) الذي يعرض على شكل مسلسل من الشرائح أو النص المكتوب باليد، فيظهر إشارات إهليليجية للصدمة النفسية مثل "إغتراب، قلق، إنخفاض في تقدير الذات، كوابيس متكررة" أو عشرون جندياً، مُهان، مضروب، محتقر، مهدد ومحروق". إن مثل هذا النص يجبر على إستعادة تمثيل الصدمة والإضطرابات النفسية الموجودة تاريخياً في الفن الإسرائيلي وخاصةً صناعة الأفلام. ومما يثير سخرية المشاهدين أكثر أن النص يعود بنا إلى الوراء عند بداية كفار شاؤول، التي أنشأت لعلاج نفس هذه الأعراض ولكن لجريمة أخرى ارتكبت في مكان آخر. ومن خلال طريقة رسم هذه المتوازية الوجودية غير المريحة، فإن أورلو يقود مشاهديه إلى صميم الهوية الإسرائيلية ذاتها، كما لو كان يستفز بخبث ومهارة النقطة العمياء الحاضرة الغائبة ألا وهي دير ياسين.
[أوريل أورلو، "السيناريو". ٢٠١٣. الصورة من الفنان.]
[أوريل أورلو، "السيناريو" ٢٠١٣، الصورة من الفنان.]
إن الخطة تستدعي أن ينتهي فيلم لم يصنع مع تنويه الختام (The Closing Credits): فيلم 16 ملم قصير من لفافة نصية تحتوي عل كل أسماء القرى المهجرة عام 1948 بالعربية والإنجليزية على خلفية من صور الأرض. وبذلك فإن هذا العمل يضيف مكوناً مرئياَ للائحة الأدبيات المتنامية والتي توثق وتؤرشف، والأهم من ذلك أنها تعيد قراءة فقدان فلسطين التاريخية وكيف نفكر بعلاقة اسرائيل بالفلسطينيين اليوم. إلا أن خوض أورلو، اللامتهادن من ناحية، والحاذق من ناحية أخرى، في الطبقات العديدة لتاريخ العنف هذا من خلال المكان المطموس لدير ياسين والذي يبقى حياً على وجه المفارقة من خلال الحيوات التي يلازمها، يضيف بعداً جديداً لكيفية التعبير عن هذا الأمر فكرياً وزمنياً ومكانياً وعاطفياً. ولأن العمل، بالإضافة إلى كافة الأمور التي يمثلها، عبارة عن نداء عاجل لمعالجة الغبن التاريخي، والذي يبدو مستعصياً على العلاج، من خلال حثنا على التحديق المباشر بوجه ما يلاحقنا ويلازمنا.
[للنسخة الإنجليزية من المقال يمكن الضغط هنا]